مؤسسات و بنوك

قوة الدولار تواجه اختبار الثقة وسط تصاعد الشكوك العالمية

منذ منتصف يناير انخفض الدولار الأمريكي بحدة بنسبة 9% ليصل إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات، وهو تراجع يُثير المخاوف من احتمال فقدان المستثمرين ثقتهم بالولايات المتحدة.

يخضع سوق تداول العملات لتقلبات مستمرة بفعل مخاوف التضخم وسياسات البنوك المركزية وعوامل اقتصادية أخرى، غير أن خبراء الاقتصاد يعبرون عن قلق متزايد من أن الانخفاض الأخير في قيمة الدولار قد يكون أعمق من مجرد تذبذب طبيعي، مشيرين إلى أنه قد يعكس تراجعًا في ثقة المستثمرين، خاصة في ظل مساعي الرئيس “دونالد ترامب” لإعادة رسم خريطة التجارة العالمية.
لطالما دعمت إدارات أمريكية من كلا الحزبين هيمنة الدولار في التجارة الدولية، باعتباره ملاذًا آمنًا يساعد في خفض تكاليف الاقتراض الأمريكية ويمنح واشنطن نفوذًا عالميًا، ومع ذلك، فإن هذه المزايا الجوهرية قد تكون مهددة في حال اهتزت الثقة بالاقتصاد الأمريكي، ويحذر الخبراء من أن بناء الثقة والاعتماد العالمي على الدولار استغرق أكثر من نصف قرن لكن فقدان هذا الاعتماد قد يحدث في لحظة.

وقد شهدت موجة بيع الدولار الأمريكي تزامنًا مع اضطرابات حادة في أسواق الأسهم والسندات، حيث أقدم المستثمرون على بيع الأسهم وسندات الخزانة الأمريكية وسط تنامي المخاوف من التأثير السلبي لرسوم الرئيس ترامب الجمركية علي نمو الشركات واستثماراتها، ولا يزال مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” متراجعًا بنحو 14% عن ذروته الأخيرة التي سجلها في شهر فبراير.

وفي هذا السياق، صرّح أحد محللي السوق البارزين قائلاً: “المثير للقلق هو تراجع كل من الأسهم والسندات الأمريكية في آنٍ واحد، وهى ظاهرة شائعة تحدث فى الأسواق الناشئة لكنها نادرة الحدوث فى الاقتصادات المتقدمة، ومن النادر ما تحدث فى الولايات المتحدة”، وأضاف: أن ذلك يعد رسالة واضحة من المتداولين بأن الحروب التجارية تقوّض بشدة ’الامتياز الباهظ‘ الذي تمتعت به أمريكا لعقود”.

ومن المعتاد أن يرتفع الدولار في أوقات فرض الرسوم الجمركية بسبب تراجع الطلب على الواردات، لكن ما حدث هذه المرة كان مغايرًا، فقد تراجع الدولار على نحو غير متوقع، مما أربك المحللين وأدى إلى أضرار مباشرة للمستهلكين، فقد سجل الدولار انخفاضًا تجاوز 5% مقابل كل من اليورو والجنيه الإسترلينى و6% أمام الين اليابانى منذ بداية شهر أبريل.

رغم التراجع الأخير في قيمة الدولار، لا يرى كثير من المستثمرين أن موقعه كعملة احتياطية عالمية مهددة على المدى القريب، بل يتوقعون تراجعًا تدريجيًا وليس مفاجئًا، ويرجّح بعض الخبراء أن يكون هذا الانخفاض ناتجًا عن تضخم سابق في قيمة الدولار، لا عن تدهور فعلي في أساسيات الاقتصاد الأمريكي.

وفي مذكرة بحثية، أشارت شركة “يوريزون إس إل جيه كابيتال” إلى أن الدولار ظل مرتفعًا عن قيمته العادلة لفترة طويلة، مضيفة: “لقد شهدنا لسنوات تدفق السياح الأمريكيين إلى أوروبا، حيث أصبح السفر إلى جبال الألب أرخص من زيارة منتجع أمريكي قريب من محل إقامتهم، لهذا من المنطقي والضروري أن يشهد الدولار تصحيحًا سعريًا”.

ورغم أن هذا التصحيح قد يُعد طبيعيًا من منظور اقتصادي، إلا أنه يثير القلق نظرًا لما قد ينجم عنه من فقدان مزايا مهمة، لطالما استفادت منها الولايات المتحدة.

تراجع الثقة يهدد مكانة الدولار كعملة احتياطي عالمي

نظرًا لاعتماد معظم السلع العالمية على الدولار ظل الطلب علي العملة قويًا، حتى في ظل تضاعف الدين الفيدرالي الأمريكي خلال الاثني عشر عامًا الماضية، واتباع واشنطن سياسات اقتصادية كان يُفترض أن تنفّر المستثمرين، هذا الثبات في الطلب مكّن الحكومة الأمريكية، إلى جانب المستهلكين والشركات، من الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة بصورة استثنائية، ما ساعد فى تسريع وتيرة النمو الاقتصادى وتحسين مستويات المعيشة.

كما منحت الهيمنة العالمية للدولار الولايات المتحدة نفوذًا جيوسياسيًا واسعًا، مكّنها من فرض عقوبات فعالة على دول مثل فنزويلا وروسيا وإيران، عبر حرمانها من الوصول إلى العملة الضرورية لإجراء المعاملات التجارية الدولية.

وفي مذكرة حديثة، حذر “دويتشه بنك” من تآكل الخصائص الآمنة التي لطالما ميزت الدولار، مشيرًا إلى إمكانية نشوب “أزمة ثقة”، كما أشار تقرير صادر عن “كابيتال إيكونوميكس” بنبرة أكثر تحفظًا إلى أن مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية ودوره المهيمن في النظام المالي العالمي، باتا “محل تساؤل ولو بشكل جزئي

التأثير على الواردات والمسافرين

كما يلاحظ أى مسافر أمريكى خارج البلاد يمكن للدولار القوي أن يتيح لك شراء المزيد، بينما يجعل الدولار الضعيف الأمور أكثر تكلفة، الآن، قد ترتفع أسعار العديد من الواردات ليس فقط بسبب الرسوم الجمركية ولكن أيضًا نتيجة ضعف العملة.

إن أي تراجع في مكانة الدولار كملاذ آمن قد ينعكس على المستهلكين الأمريكيين بطرق أخرى، مثل زيادة سعر الفائدة علي الرهون العقارية وتمويل السيارات، حيث سيطالب المقرضون معدلات فائدة أعلي لتعويض المخاطر المتزايدة.

ولكن ما يثير القلق بشكل أكبر هو احتمالية زيادة سعر الفائدة علي الدين الفيدرالى الأمريكى، الذى بلغ حاليًا 120% من الناتج المحلى الإجمالى وهى نسبة تعتبر خطرًا كبيرًا على الاقتصاد.

يقول الخبير الاقتصادي فى مجلس العلاقات الخارجية “بن ستيل”: إن أغلب الدول التى تشهد مستويات دين مرتفعة مقارنة بالناتج المحلى الإجمالى ستتعرض لأزمة كبيرة، والسبب الوحيد الذى يحول دون حدوث ذلك في الولايات المتحدة هو احتياج العالم للدولار فى المعاملات التجارية، ويضيف: “لكن فى مرحلة ما، سيبدأ الناس في التفكير جدياً فى البحث عن بدائل الدولار”.

وقد بدأت هذه البدائل تظهر بالفعل، فمنذ سنوات بدأت الصين في إبرام صفقات تجارية باليوان مع دول مثل البرازيل لشراء منتجات زراعية، ومع روسيا لشراء النفط، ومع كوريا الجنوبية لشراء سلع أخري، بالإضافة إلى ذلك، تقدم الصين قروض باليوان لبنوك المركزية فى دول بحاجة ماسة إلى السيولة مثل الأرجنتين وباكستان، مستبدلة الدولار كمصدر تمويل طارئ.

كما يشير البعض إلى إمكانية ظهور بديل آخر للعملة الأمريكية في المستقبل، يتمثل في العملات المشفرة إذا ما شهدت أسواقها توسعًا، فإذا استمر العجز في التزايد فإن الولايات المتحدة قد تخاطر بفقدان مركزها لصالح العملات الرقمية مثل البيتكوين.

الرسوم الجمركية والتضخم

لا يعتقد الجميع أن السبب الرئيسي في تراجع الدولار يعود إلى تراجع الثقة في الولايات المتحدة، حيث يري البعض أن تباطؤ الدولار قد يعكس التوقعات بارتفاع التضخم نتيجة للرسوم الجمركية، ومع ذلك، رغم عدم ارتياح المستثمرين للاحتفاظ بالدولار إلا إنهم لا يملكون بدائل كافية، فلا توجد عملة أو أصل مالي آخر مثل البيتكوين أو اليوان أو الذهب، كبير بما يكفى لتلبية الطلب العالمي على الأصول، وبالتالي لن تفقد الولايات المتحدة هيمنة الدولار كعملة احتياطية إلا إذا اضطر أحدهم إلى التخلي عنها، وحاليًا لا يتواجد بديل.

ورغم ذلك، يبدو أن الرئيس ترامب يختبر حدود هذا النظام، فالمسألة لا تقتصر على الرسوم الجمركية نفسها بل على طريقة تنفيذها، التي شابتها العديد من التوقفات والتأخيرات، ويرى الخبراء أن هذا التذبذب في السياسة يجعل الولايات المتحدة تظهر بشكل أقل استقرارًا وأقل موثوقية، مما يجعلها مكانًا أقل جذبًا للاستثمار.

هناك أيضًا تساؤلات حول المنطق الذي يعتمده ترامب لتبرير هذه السياسات، إذ يصر الرئيس على أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الرسوم الجمركية لتقليص العجز التجاري مع الدول الأخرى، لكن معظم الاقتصاديين يرون أن العجز التجاري (الذي يقيس تجارة السلع فقط وليس الخدمات) ليس المقياس الصحيح لتحديد ما إذا كانت أمريكا تتعرض للاستغلال من قبل دول أخرى.

كما أن تهديدات ترامب المتكررة بتقليص استقلالية الاحتياطي الفيدرالي أثارت مخاوف بشأن إمكانية تخفيض أسعار الفائدة لدعم الاقتصاد، حتي لو كان هذا القرار يفاقم التضخم، وهذه السياسات قد تؤدي بالفعل إلى تراجع الثقة في الدولار، وذلك بعد أن أشار رئيس الاحتياطي الفيدرالي “جيروم باول” إلى أنه سيتمهل قبل اتخاذ أية خطوات بشأن أسعار الفائدة، الأمر الذي جعل ترامب يشن عليه هجومًا لاذعًا عليه.

هل يتجنب المستثمرون الأصول الدولارية؟

لقد أثار انخفاض الدولار حيرة مراقبي السوق، بمن فيهم وزيرة الخزانة السابقة “جانيت يلين” التي وصفت التحركات الأخيرة في عملة الاحتياطي العالمي بأنها جزء من “نمط غير مألوف للغاية”.

وأوضحت يلين أن المستثمرين يميلون إلى الانجذاب إلى الملاذات الآمنة مثل سندات الخزانة الأمريكية خلال فترات عدم اليقين في السوق، وقالت إن زيادة الطلب على سندات الخزانة عادةً ما تدعم الدولار، حيث لا يمكن تداول سندات الخزانة إلا بالدولار، لكن عائدات سندات الخزانة ارتفعت مؤخرًا بشكل كبير وانخفض الدولار.

وأضافت يلين: “ما يشير إليه ذلك هو أن المستثمرين بدأوا يتجنبون الأصول الدولارية، ويشككون في سلامة ما يُمثل حجر الأساس للنظام المالي العالمي، ألا وهو سندات الخزانة الأمريكية”

لدى الخبراء عدة نظريات حول سبب عدم إقبال المستثمرين على سندات الخزانة وسط كل هذه الاضطرابات في السوق، تكهن البعض بأن السبب هو تهديد الرسوم الجمركية بتأجيج التضخم الأمريكي مما سيجبر الاحتياطي الفيدرالي على إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة، ومن الأسباب المحتملة الأخرى انخفاض الطلب من المستثمرين الدوليين والدول الأخرى التي تشعر بالقلق من تقلبات إدارة ترامب وعدائها للنظام العالمي.

تكهن البعض بأن الصين (وهي إحدى أكبر الدول الأجنبية المالكة لسندات الخزانة) تتخلص من سنداتها ردًا على ترامب، ولكن لا تتوفر بيانات كافية تدعم هذه النظرية، وعلى الرغم من أنهم أشاروا إلى أن الصين قد خفضت حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية بنحو 25% منذ نهاية عام 2021، “ربما استباقًا لما ينتظرنا”، كما كانت الصين من أبرز المؤيدين لإلغاء الدولرة عالميًا.

وقالت يلين في هذا الأمر، بأن إغراق الصين لسندات الخزانة والدولار سيخلق “مخاطر على سوق سندات الخزانة وعلى الاستقرار المالي العالمي، مما سيضر بهما ويمثل تصعيدًا كبيرًا للغاية، وهذا ليس شيئًا أتوقعه من الصين”.

هل يستطيع ترامب استعادة الثقة بالدولار؟

يشعر المحللون بالقلق من أن نهج ترامب المتقطع تجاه الرسوم الجمركية قد أدى إلى تآكل الثقة في الأصول الأمريكية، وأشار محللو بنك MUFG إلى وجود فجوة بين قيمة الدولار الأمريكي وفروق أسعار الفائدة في تقييمهم بأن رسوم ترامب الجمركية قد خلقت “أزمة ثقة” في الدولار، وقالت يلين إن “فقدان الثقة في السياسة الاقتصادية الأمريكية وسلامة الأصول المالية الأساسية أمر مقلق للغاية”.

قد يكون من الصعب استعادة الثقة في استقرار الدولار وسندات الخزانة الأمريكية، وقد انتعشت أسواق الأسهم يوم الاثنين بإعلان ترامب أن أشباه الموصلات والعديد من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية لن تخضع لما يُسمى بالرسوم الجمركية المتبادلة، لكن بالنسبة لمحللي MUFG، فإن هذا الإعفاء هو مجرد مثال آخر على ارتفاع مستوى عدم اليقين السياسي الذي سيستمر في تقويض الثقة في الأصول الأمريكية.

وأوضح محللو MUFG أن إعادة بناء الثقة تتطلب من ترامب والصين التراجع عن زياداتهما الأخيرة في الرسوم الجمركية، ومن الكونغرس وضع خطة لتقليص العجز، ويرون أن كلا الأمرين غير محتمل.

وكتب المحللون: على المدى القريب، من الصعب رؤية أي عامل أساسي من شأنه أن يُحسّن معنويات المستثمرين، ورغم التصريحات الصادرة عن ترامب ووزير التجارة بشأن الإعفاء، إلا أنها لا تُشير إلى أي سبب للتفاؤل بشأن حدوث تحول جذري في السياسة من شأنه أن يُحفز انتعاش الدولار.

زر الذهاب إلى الأعلى